تجد في نهاية المحاضرة رابط لتحميل النص ملف PDF
التوحيد في الحج
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فيطيب لي أن ألتقيكم الليلة الأربعاء الثالث والعشرين من ذي القعدة لعام ثلاث وأربعين وأربعمئة وألف من هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في جامع والدة الأمير بدر بن عبد الله بن عبد العزيز آل سعود بحي الازدهار بمدينة الرياض حرسها الله بالتوحيد والسنة في محاضرة بعنوان: “التوحيد في الحج”
سائلا الله أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم موافقة لدينه القويم وأن ينفعنا بما نقول ونسمع، إنه الرحمن الرحيم ذو الفضل العظيم.
فأقول مستعينا بالله:
تعريف التوحيد شرعا: إفراد الله بما يستحق من توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
وضد التوحيد هو الشرك؛ وبضدها تتبين الأشياء
وتعريف الشرك شرعا: تسوية غير الله بالله في شيء في خصائص الله.
والتوحيد هو الغاية والهدف والمقصود من خلق الله للخلق قال تعالى “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” الآية كذلك ما ارسل الله الرسل إلا لعبادته وحده لا شريك له فقال سبحانه “ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت” الآية كذلك ما أنزل الله الكتاب إلا لعبادته وحده لا شريك له فقال “الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (*) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ” الآيات.
فالتوحيد هو غاية الغايات والهدف من كل العبادات وأصل جميع الرسالات فالتوحيد لا ينسخ ولا يختلف كالشريعة التي تختلف قليلا بين الرسالات قال تعالى “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ” الآية. هذا في معنى التوحيد أما في معنى الشرائع فقال سبحانه: “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا” الآية. وقال: “لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ” الآية، وقال أيضا: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ” الآية، وفي الآية الكريمة الأخيرة جمع سبحانه بين الإشارة إلى اختلاف الشرائع وإلى وحدة التوحيد.
والحج من العبادات التي شرعها الله على إمام الموحدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبقيت ما شاء الله حتى دخلها من التحريف والزيادة والنقصان ما الله به عليم لكنها بقيت في عموم شعائرها حتى بُعث النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنه حج صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كما جاءت بذلك الآثار، ذكره ابن حجر في الفتح والقرطبي في تفسيره.
وأود الإشارة هنا إلى أمر له علاقة بعنوان اللقاء وهو أن المشركين في الجاهلية كانوا يحجون بيت الله الحرام بل ويعظمونه وكان كفار قريش يساعدون حجاج بيت الله بالمال والطعام واللباس والإيواء وكانوا يتنافسون في ذلك ومع كل هذا التعظيم والكرم والخدمة والجهد لم ينفعهم حين غاب التوحيد وظهر الشرك فيهم وهو سبب إرسال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
فمعركتنا نحن الموحدين السلفيين مع الناس كافرهم ومبتدعهم هو في توحيد الله سبحانه وتعالى لذلك لو تكلم سلفي بفضل الصلاة والصدقة والصيام والحج والذكر وتلاوة القرآن وبر الوالدين والصدق والأمانة لما نازعه أحد من المبتدعة المسلمين في ذلك بل لن ينازعه أحد في الصدق والأمانة وحسن الخلق وإتقان العمل حتى الكفار والملحدين.
لكن لو تكلم في التوحيد لانبرى له خلق عظيم من المبتدعة والزنادقة والكفار والمارقة وكل مذهب وملة وديانة وشرعة ونابذوه العداء وأكنوا له البغضاء وتربصوا به الدوائر وأقاموا عليه الدنيا بالمكر والبهتان وحرضوا عليه كل فاجر وشيطان.
أما فريضة الحج والتي نحن على أبوابها مقبلين سائلين الله أن يسهلها على حجاج هذا العام وكل عام.
فأقول الحج هو أظهر فرائض الإسلام وأركانه التي يتحقق فيه معنى توحيد الله سبحانه أكثر من غيره من الفرائض والعبادات وذلك لعدة أسباب أذكر منها سبعة:
أولا :
أن الحج اقتداء بإمام التوحيد والموحدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبمحمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وإمام الموحدين أيضا، قال تعالى: “وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا” الآية، لأن الكعبة هي مكان العبادة فهي قبلة الصلاة والدعاء والذكر عموما قال صلى الله عليه وسلم: “إن لكل شيء سيدا وإن سيد المجالس قبالة القبلة” الحديث قال ابن مفلح يستحب استقبال القبلة عند كل عبادة إلا ما استثناه الدليل.
وقال تعالى “وإذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” الآيات. فبعد أن ذكر سبحانه قصة بناء الكعبة جعل الإسلام وما يشمله من عبادات تبعا لبناء البيت ثم بين سبحانه خطورة ترك ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم أكد سبحانه على توحيده بوصية يعقوب وختم بها.
لذلك جاء في قوله تعالى” إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ” الآية.
نقل البغوي في تفسيره عن الحسن والكلبي : معناه : أول مسجد ومتعبد وضع للناس يُعبد الله فيه كما قال الله تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) يعني المساجد.
وعلى العموم في الآيات السابقات دليل على أن في حج بيت الله الذي أعاد بناءه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليكون مكان تعبد عموما من حج وصلاة واعتكاف وهدي لمن سيأتي من بعده فمن هذا الوجه سبق الحج الذي سَنَّهُ ابراهيم باني البيت العتيق الصلاة وجميع العبادات التي يقصد بها إقامة توحيد الله بالتطبيق العملي للعبادات.
ثانيا :
أنه في فريضة الحج يظهر تساو العباد في ظاهر لباسهم ومكان اقامتك ووقوفهم بالمشاعر ملبين وكأنهم في صعيد يوم القيامة واقفين يوم يظهر ملك الله رب العالمين؛ وهذا من الأمور التي تتجلى فيها عظمة الخالق وضعف وافتقار العباد له سبحانه وتعالى وتعلق القلوب به خوفا ورجاء ومحبة طلبا لما عنده من مغفرة وفضائل؛ وهذا من أجل معاني التوحيد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ” كل من علَّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه ، أو يرزقوه ، أو أن يهدوه ؛ خضع قلبه لهم ، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك”.
ثالثا :
أن الحج يبتدئ بالتوحيد، أخرج البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديث الحج الطويل والشاهد منه قوله: “فأهل النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، وأهلَّ الناس بهذا…” الحديث، قال ابن القيم رحمه الله عن التلبية: ” أنها شعار التوحيد ملة إبراهيم، الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات كلها والمقصود منها، ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها بها” تهذيب السنن.
رابعا :
إن في إقامة العبادات المشروعة أيام الحج وفي مشاعر الحج استحضارا لتوحيد الله في النفوس ولو لم تدركه الألسن بالشكر والعرفان فإن الطواف في البيت العتيق عبادة لله رب العالمين تذكير ببطلان طواف المشركين بالقبور والأضرحة والحجر والأشجار والأصنام. فهنا يتضح الفرق بين الحق والباطل والموحد والمشرك. ولله الحجة البالغة
لذلك ترون منافسة أهل الشرك والخرافات حين بنو كعبة لهم على قبر أحد طواغيتهم يطوفون بها ويصلون إليها ولها، ويذبحون عبادة لها ويستغيثون بها على الضد من الموحدين الذين يدعون الله عند بيته الحرام اقتداء برسله واتباعا لكتابه يطوفون بالبيت لله رب البيت ورب العالمين وهكذا. قال تعالى : “وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا” الآية.
خامسا :
في أيام الحج العظيمة المباركة تجتمع أمهات العبادات كلها من صلاة وذبح وصدقة وصيام وحج وذكر وتلبية وهذا لا يحصل إلا في أيام الحج لذلك تظهر معنى العبادة لله وحده لا شريك له في هذه الأيام وتلك الأماكن وهو معنى توحيد الله اعتقادا وعملا، قال تعالى “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (*) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” الآية. فجميع أنواع العبادات يراد بها التوحيد ولا تقبل إلا به.
وعلى سبيل المثال: قال صلى الله عليه وسلم “خيرُ الدعاء دعاء يوم عرفه ، وخيرُ ما قلت أنا والنبيّون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير” الحديث. وهذا الدعاء اشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة.
سادسا :
في الرحلة إلى الحج سفر ومشقة والحاج يقع في مواقف يشعر فيها بضعفه وافتقاره إلى توفيق الله وحفظه أكثر من إقامته بين أهله وذويه وبين أملاكه وأراضيه من غير تقييد ولا مزاحمة من غيره؛ ففي مثل تلك الحالات وإن تفاوت العباد فيها إلا أنها تجعل من العبد في حالة افتقار إلى الله وإلحاح في الدعاء وتوكل على الله وخوف من عقابه ورجاء لثوابه ومغفرته بقلب مشتغل بحبه سبحانه وهذا هو أبلغ معاني التوحيد فإذا كان المشركون يوحدون في الشدة ويشركون في الرخاء كما قال تعالى : “فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ” الآية، فإن المؤمن يجد في الحج شدة مقارنة بالمقيم لذلك يزداد المؤمن بحاله في الحج إيمانا وإخلاصا لله رب العالمين. قال تعالى: “وأتموا الحج والعمرة لله” الآية.
سابعا :
أن الحج عبادة سنوية قد لا تتهيأ للعبد إلا مرة في عمره يبذل فيها جهدا ومالا ووقتا وغربة لذلك تكون القلوب فيها أكثر حضورا لمعنى العبادة من الصلاة التي يكررها خمس مرات في يومه وليلته وكذلك الذكر وقد تدخل العادة على العبادة فتصبح حركات أعضاء بلا خشوع، وعمل ظاهره بلا قلب حاضر. فمن هذا الوجه يتحقق التوحيد في عبادة الحج أكثر من غيره؛ لذلك تجدون استحضار الحجاج وحاجتهم لاستفتاء من يفتيهم في مناسكهم بل وكل عباداتهم في هذا الشعيرة التعبدية العظيمة.
فأسأل الله أن ييسر لنا حج بيته الحرام وييسر للحجاج حجهم هذا العام ويحفظنا وإياكم بعينه التي لا تنام وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه الكرام.
23 ذو القعدة ١٤٤3هـ
هاشم المطيري
جامع والدة الأمير بدر بن عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود بحي الازدهار #الرياض