التصنيفات
الفقه المحاضرات

العشر الأوائل من ذي الحجة فضائل ومسائل – هاشم المطيري #محاضرة

العشر الأوائل من ذي الحجة فضائل ومسائل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فيطيب لي أن ألتقيكم الليلة الأربعاء الثلاثين من شهر ذي القعدة لعام ثلاث وأربعين وأربعمئة وألف من هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، في محاضرة بعنوان: العشر الأوائل من ذي الحجة فضائل ومسائل.
في جامع والدة الأمير بدر بن عبد الله بن عبد العزيز آل سعود بحي الازدهار بمدينة الرياض.
فأقول مستعينا بالله سائله أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا وأن يرزقنا الإخلاص في القصد والمتابعة فيما نقول إنه الرحمن الرحيم ذو الفضل العظيم.

المسألة الأولى:
إن الله يختار من مخلوقاته ويصطفي من عباده ما يشاء برحمته وفضله وحكمته وعدله، قال تعالى:{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]،
وعلى سبيل الذكر هذه ثلاثة أنواع أو أجناس اصفى الله منها واختار سبحانه منها ما شاء.


النوع الأول: اصطفى الله سبحانه من جنس الملائكة والبشر رسلا، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [الحج: 75]، وقال سبحانه أيضا في الاصطفاء والاختيار من جنس البشر: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 45، 46، 47]، كذلك في حق غير الرسل من جنس البشر، كما ورد في حق نساء النبي  فقال سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ} [الأحزاب: 32]، كذلك في حق الصحابة  ما أخرج الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود  أنه قال: «إنَّ اللهَ نظرَ في قلوبِ العبادِ فوجدَ قلبَ محمدٍ  خيرَ قلوبِ العبادِ فاصطفاهُ لنفسِهِ فابتعثهُ برسالتِهِ ثم نظرَ في قلوبِ العبادِ بعدَ قلبِ محمدٍ فوجدَ قلوبَ أصحابِهِ  خيرَ قلوبِ العبادِ فجعلهم وُزَرَاءَ نبيِّهِ يُقاتلونَ على دِينِهِ…».
النوع الثاني: الاصطفاء والاختيار من جنس الأزمان والأوقات، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، وفي العشر الأوائل من ذي الحجة قال سبحانه: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2]، وقال أيضا: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } [الحج: 28].
النوع الثالث: الاصطفاء والاختيار من جنس الأماكن والديار فقال سبحانه: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران: 96، 97]، فاختار سبحانه مكة من بين الأراضين لتكون أول بيت وقبلة الصلاة ومقصد الحج والطواف له سبحانه واصطفاه بالأمن من عنده أسأل الله أن يديم نعمة الأمن على بلده الأمين وسائر بلدان المسلمين.

المسألة الثانية:
أن الاصطفاء أو الاختيار موجب لمضاعفة الحسنات وتعظيم السيئات، فالحسنة تضاغف للنوع الأول من الاصطفاء من جنس البشر أكثر من غيره، كما تعظم السيئة منهم، قال تعالى: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ} [الأحزاب: الآيات].
كذلك الحسنة في الزمن المصطفى والمختار على غيره من الأزمان تضاعف فيه الحسنة، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} [القدر]، وروى ابن أبي الدنيا عن الزهري 6 قال: “تسبيحة في رمضان أفضل من ألف تسبيحة في غيره”، وأخرج البخاري عن ابن عباس  عن النبي ﷺ قال: «ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ منها في هذه، [يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ] قالوا: ولا الجِهادُ؟ قالَ: ولا الجِهادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنَفْسِه ومالِه، فلَمْ يَرْجِعْ بشَيءٍ».
كذلك الحسنة في الأماكن المصطفاة والمختارة تضاعف، أخرج ابن ماجة عن جابر بن عبد  عن النبي ﷺ قال: «صلاةٌ في مَسْجِدِي أفضلُ من ألفِ صلاةٍ فِيما سِواهُ إلا المسجِدَ الحرامَ ، و صلاةٌ في المسْجِدِ الحرامِ أفضلُ من مِائةِ ألفِ صلاةٍ فِيما سِواهُ»، كما أن السيئة تعظم، قال تعالى في حق المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].

المسألة الثالثة:
ما هو المندوب على المسلم الذي يدرك زمانا مختارا فاضلا على غيره من الأزمان مثل هذه العشر التي بدأت بغروب شمس هذا اليوم؟
المؤمن الكيس الفطن الذكي الموفق هو الذي يجتهد ما استطاع في الزمن الفاضل ويغتنم مضاعفة الحسنات في عبادات قد يفتر عنها في الأزمان العادية، لذلك كان من أدعية النبي «اللهمَّ إنا نسألكَ عزائمَ مغفرتكَ، ومنجياتِ أمركَ، والسلامةَ من كل إثمٍ ، والغنيمةَ من كلِّ برٍّ ، والفوزَ بالجنةِ ، والنجاةَ من النارِ» بل المؤمن يُفْرِغ طاقته وما بوسعه من جهد ويفرّغ نفسه في الأزمان الفاضلة المصطفاة حتى إذا انتهت عوض نفسه بالترويح عنها لذلك شرع الله العيدين بعد شهر رمضان وكذلك بعد العشر وهذا من حكمة الله والله حكيم خبير.
أترون كيف يتفرغ الطلاب ويجتهدون في أيام الاختبارات ما لا يفعلونه في غيرها، كذلك ينبغي للمؤمن في الأيام الفاضلة التي اصطفاها الله واختارها من بين أيام العام وضاعف فيها الأجور وعظم فيها الآثام؛ فالأعمار قصيرة والملهيات كثيرة والآجال خطيرة تتخطف العباد وما لهم في ردها حيلة، فلعل بعضنا لا يدرك هذه الأيام العظيمة في العام المقبل، إذن فلنقبل على الله بكل ما شرع من الطاعات والقربات، وقد وردت الأدلة على مشروعية التقرب إلى الله في هذه العشر بكل أنواع الطاعات تسبيحا وتكبيرا وتحميدا وتهليلا وصلاة وصيام وصدقة وصلة أرحام وتلاوة للقرآن وحج لبيت الله الحرام، فمن عجيب هذه الأيام وما اختصت به عن سائر الأيام هو اجتماع أمهات العبادات كلها، وظهور شعائر التوحيد ما لا يوجد في غيرها، أيضا من رحمة الله علينا وعلى طلاب المدارس والآباء وعموم المسلمين في هذه البلاد المباركة أن انتهت الاختبارات وبدأت الإجازات، فيتفرغ المسلم للعبادة ويشكر الله على ما سهل ويسر من زمن الدراسة، قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8].

المسألة الرابعة:
اختصت هذه الأيام بعبادات وصفات مخصوصة عن غيرها من الأيام، فالتكبير مشروع في كل وقت بصوت مرتفع من غير صوت جماعي ولا تلحين أو ترتيل للتكبير، يشرع الحج وهو خاص لا يشرع في غيرها، كما تشرع الأضحية للحاج وغيره الحي وعن الميت بصفات ووقت مخصوص، كما يشرع الامتناع عن أخذ الشعر والأظافر، كما يشرع حلق الرأس بعد ذبح الأضحية وهي سنة مهجورة ثبتت عن ابن عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة، وقال به الإمام أحمد بن حنبل 6
ومن أفضل الأعمال هو صوم يوم عرفة، أخرج مسلم عن أبي قتادة  عن النبي  أنه قال في صيام يوم عرفة: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده». كذلك ذبح الأضحية يوم النحر، أخرج البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي  أنه قال: «ما عملَ آدميٌّ من عملٍ يومَ النحرِ أحبُّ إلى اللهِ من إهراقِ دمٍ».
المسألة الخامسة:
تنبيهات على مخالفات في هذه الأيام العشر الفاضلات:
التنبيه الأول: استحضار النية الخالصة لوجه الله في أوقات العبادات الفاضلة فإن الشيطان لا يزال بابن آدم حتى يخرج عمله من ديوان السر إلى ديوان العلانية ثم إلى إفساده بالرياء كما ذكر الإمام ابن القيم 6، والحذر من هذه الجوالات التي تصور فيها العبادات وتنقل فيها الأخبار في الرسائل والمجموعات فتصبح العبادة مادة أو أداة إغاضة وتنافس، ويا حسرة الجهد والوقت الضائع والتشبع بما ليس في العبد من إخلاص ومتابعة، قال الإمام ابن القيم في المدارج: “الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة، فليس عمله موافقا لشرع، وليس هو خالصا للمعبود، كأعمال المتزينين للناس، المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق، وأمقتهم إلى الله عز وجل، ولهم أوفر نصيب من قوله {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 188] يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك، ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص”، وهذا واقع للأسف، فحب المرء أن يحمده الناس على ما فعل من عبادة يدفعه إلى إخبارهم بعبادته ومع أن عبادته تلك التي أظهرها للناس غالبا ما تكون مخالفة للسنة إذ لو كان عنده شيء من العلم والسنة لنهاه عن الرياء وإظهار عبادته للناس، ولأخفاها عن الناس كما يخفي البخيل ماله عن الناس، والعبادة أهم وأعظم من المال.
التنبيه الثاني: ما يكرره بعض المحسوبين على العلم من تزهيد الناس في ركن الحج، أو شعيرة الأضحية ودعوتهم المسلمين إلى التصدق بقيمة ذلك على المحتاجين وأن هذا أكثر نفعا من مجرد العبادة التي لا يحتاجها الله أو اللحم الذي لا ينتفع به الفقراء إلا طعاما، وغيره من الكلام الساقط المخالف لنصوص الوحي والمبني على تقديم العقل القاصر على مقاصد الشريعة الحكيمة، ومخالف هدي النبي وسبيل المؤمنين
التنبيه الثالث: عدم اهتمام المسلم بالهدي النبوي في العيدين الشرعيين مثل عيد الأضحى، فتجد بعض المسلمين للأسف أكثر فرحا بالأعياد المحرمة والبدعية وأعياد الكفار وأكثر احتفاء وتوسيعا على العيال من النسوان والصبيان، حتى فترت نفوسهم في الأعياد الشرعية ولو أنهم امتنعوا عن الأعياد الباطلة لتهيأت نفوسهم للأعياد الشرعية ووجدوا من الفرح والأنس والسعادة ما لا يوجد في غيرها مما حرم الله ورسوله، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أننا عبيد لله، خلقنا لعبادته، وهو أعلم وأخبر بما يصلح أحوالنا ويسعد نفوسنا، قال تعالى: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك: 14].
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.

هاشم المطيري – 30 ذو القعدة ١٤٤٣هـ
جامع والدة الأمير بدر بن عبدالله بحي الازدهار #الرياض

لتحميل المحاضرة ملف PDF اضغط هنا

بواسطة هاشم المطيري

المشرف على موقع البيعة
ماجستير عقيدة ومذاهب معاصرة
داعية وخطيب جمعة ومهتم بالأمن الفكري وتوعية المجتمع.